تاريخ السقاية والرفادة

"السقاية والرفادة: شرف الضيافة في رحاب مكة"
السقاية والرفادة: رمزان للكرم العربي في خدمة الحجيج

في رحاب مكة، تلك المدينة التي حُفّت بالمهابة وأحاطتها الرمال والصخور كأنها تحرس قدسيتها، نشأت تقاليد ضاربة في عمق التاريخ، تؤكد مكانتها الدينية والاجتماعية بين قبائل العرب. ومن بين تلك التقاليد، برزت السقاية والرفادة بوصفهما من أعظم صور الجود التي اقترنت بخدمة الحجيج، فغدتا عنوانًا لسيادة قريش على الحرم، وعاملًا جوهريًا في ترسيخ مكانتها بين القبائل.

السقاية: مكرُمَةُ الماء في أرض العطش
مكة، بحكم موقعها الجغرافي، كانت تعاني من ندرة المياه، إذ لم تكن تجود أرضها إلا ببئر أو بئرين، أبرزها بئر زمزم، التي طُمِست في زمنٍ مضى، حتى أحياها عبد المطلب بن هاشم من جديد، لتكون معينًا لا ينضب في خدمة قاصدي البيت الحرام. ولم تكن السقاية مجرد عمل خيري، بل كانت وظيفة ذات طابع ديني واجتماعي وسياسي، يتنافس الأشراف على حمل أمانتها، لما تجلبه من وجاهة وشرف.

كان القائم بالسقاية يتكفل بنقل الماء العذب من الآبار القريبة، ثم يفرغه في أحواض من الجلد تُنصب في فناء الكعبة، ليشرب منه الحجاج بلا مقابل. وكان يُضاف إليه أحيانًا التمر أو الزبيب، فيصبح الشراب أحلى وأشهى، يروي العطش في قيظ الصحراء القاسي. وقد توارث بنو هاشم هذه المهمة منذ عهد قصي بن كلاب، واستمرت في نسل عبد مناف، حتى آل أمرها إلى العباس بن عبد المطلب في أواخر العصر الجاهلي وأوائل الإسلام.

الرفادة: كرم الضيافة في أبهى صوره
أما الرفادة، فكانت صورة أخرى من صور العطاء، إذ كانت تقوم على إطعام الحجيج الفقراء، الذين شدّوا الرحال إلى مكة غير متزودين إلا بإيمانهم. وقد أُسست هذه العادة على يد قصي بن كلاب، حينما أدرك أن شرف مكة لا يكتمل إلا بحسن استقبال قاصديها، ففرض على قريش جمع المال من تجّارها وأثريائها، ليُنفق في إعداد المآدب الكبيرة التي يُطعم منها كل وافد جائع.

ومع مرور الزمن، أصبحت الرفادة نظامًا متبعًا يتوارثه بنو هاشم، فكان هاشم بن عبد مناف أكرم من قام عليها، إذ لم يكن يكتفي بالطعام المعتاد، بل كان في سنوات القحط يطحن الخبز ويخلطه باللحم، فيصنع منه حساءً دافئًا يُعرف بـالثريد، ليكون غذاءً مشبعًا للحجيج.

بين السقاية والرفادة: مشهدٌ يروي قصة مكة
إن السقاية والرفادة لم تكونا مجرد تقاليد عابرة، بل كانتا أساسًا لنظام اجتماعي متكامل، تتجلى فيه قيم الكرم والمروءة والسيادة. فمن امتلك الماء والطعام، امتلك القلوب، ومن خدم البيت العتيق، حاز المجد والزعامة بين العرب. ولهذا، لم يكن غريبًا أن يكون لبني هاشم نفوذ واسع بين بطون قريش، إذ اجتمع لهم الشرف الديني والسياسي، ممثلًا في خدمة الحجيج وإكرامهم.

وبقدوم الإسلام، لم تندثر هذه الوظائف، بل أعيد تنظيمها تحت مظلة الدولة الإسلامية، وظلت مكة تحافظ على دورها التاريخي كمهوى أفئدة المؤمنين، تستقبلهم بالماء العذب والطعام الكريم، كما كانت تفعل منذ قرون خلت.
البوم الصور